الثلاثاء، 15 فبراير 2011

من انتم ؟؟

لا أظن احد سوف يجد منزلا أكثر هدوءا و انعزالا من المنزل الذي إمامنا.. و لكي أوضح الأمر أكثر..كنا قد انتقلنا أنا واسرتى إلى هذه المنطقة المنعزلة تقريبا منذ حوالي شهر..و في قولي أنها منعزلة ليس معنى هذا إننا في ما يشبه الصحراء ، بل أن البناية التي نسكن بها الآن تعد من المراكز المتكاملة التي تحتوى على مكاتب للمحامين و عيادات للأطباء بجانب السوبر ماركت الأنيق الموجود بأسفلها و إن كان زبائنه قليلون..بل كل ما في المنطقة قليلون حتى يخيل لي أحيانا أننا الوحيدون الموجودون بالمنطقة.

دائما حولنا الصمت.. صمت تام شامل لا يسمع به شئ إلا حفيف الأشجار التي تميز جانبي الطريق عند مرور الرياح من بين أوراقها الذابلة.

دائما هناك هذا الهدوء الغامض .. الذي تحس معه أن هناك شئ ما يحيط بك لا تدرى كنهه .. و لكنه موجود.. و يطوف حولك و يرمقك في حين لا تشعر أنت بوجوده إلا بإحساسك فقط.

قد أكون مبالغا بهذا الوصف السابق لمنطقتنا .. و قد تكون مبالغتي تلك مبعثها وجود هذا المنزل الذي سبق أن تحدثت عنه .. انه ليس أمامنا تماما بالمعنى المفهوم للعبارة، بل هو على بعد مائه متر تقريبا من موقعنا الذي نسكن به.. لذا فهو منعزل تماما .. تماما عن كل شئ .. و عن الوجود أيضا .. حيث نما إلى علمي خلال المدة التي قضيتها هنا انه مهجور منذ سنوات عديدة لا يعرف احد ماهيتها.

استلزم منى هذا المنزل اهتماما خاصا لا أدرى منبعه.. ربما شعوري بان هذا المنزل يخفى سرا خاصا لا يدريه احد.. ربما شعوري بان سر هذا الهدوء الغامض ينبع من هذا المنزل ومن خلف جدرانه.

كان هناك رجل في المنطقة يبلغ من العمر أرذله .. يقول البعض انه هنا قبل أن يدب العمران حديثا إلى المنطقة.. و كانت تدور حوله حكايات غريبة عن سبب جلوسه وحده في هذا المكان قرابة الخمسين عاما بدون ونيس قبل أن يبدأ العمران في غزو المنطقة .. كانت الناس تخاف منه خوفا من لا شئ .. خوفا من عينيه اللاتي تحس من ورائهما شئ غامض لا تدريه.

و بالرغم من نفور الناس منه إلا اننى كنت منجذبا له بصوره خاصة .. ربما لشعوري بان كشفي لسر هذا الرجل يعتبر كشف لسر من أسرار الكون.

كان هذا الرجل يسكن على مقربه منا في منزل من طابق واحد تبدو عليه آيات القدم.. و كنت قد تعودت بعد رجوعى من الجامعة – رغم معارضه والدي – أن اذهب إليه و اجلس معه نتحدث قليلا.. و سرعان ما نمت صداقه بيننا .. و اغلب الظن أن الرجل وجد بى صديقا له بعد مده طويلة قضاها دون اصدقاء في مواجهه نظرات الخوف المتصاعدة من عيون الناس.

كنت قد جلست معه ذات يوم نتحدث كثيرا.. كان يوم جمعه .. و كنت قد رجعت من الصلاة عليه مباشره على أمل قضاء بعض الدقائق معه قبل ذهابي إلى المنزل دون معرفه والداي.

تحدثنا في شتى الموضوعات.. كان يحدثني بلهجة الواثق بصفته الوحيد العالم بأسرار هذه المنطقة .. و في حين فجأة جاءني هذا السؤال الذي نقلته على الفور إلى لساني :

- قل لي .. أنت هنا منذ زمن طويل.. فهل تعرف من هم أصحاب هذا المنزل المهجور الذي أمامنا ؟؟؟

ارتجفت عيناه قليلا خلف أبخره الشاي الساخنة الذي كان يرتشفه ثم نظر لي نظره غريبة و قال:

- و ماذا يهمك من أمر هذا المنزل ؟؟؟؟

- لا شئ .. غير اننى جاءتنى دهشة من وجود منزل فاخر كهذا بدون وجود أى ساكن به..

أراح ظهره على المقعد و في حين حدقت عيناه أمامه في لا شئ .. في أبخره الشاي المتصاعدة و التي تتلاشى بهدوء في الهواء.. ظل على هذا الوضع فتره قصيرة ثم تكلم أخيرا.. بصوت خافت كالمتكلم إلى نفسه :

- اننى في هذه المنطقة فعلا منذ فتره طويلة .. قبل أن يدب العمران فيها بزمن.. و منذ وصولي إلى هنا منذ كنت شابا صغيرا و أنا أجد هذا المنزل أمامي خاويا كما هو.. كان هو المنزل الوحيد مع منزلي هذا الذي بنيته في حين وصولي إلى هنا .. كنت أنا و هو في ما يشبه الصحراء.. لا أعرف له أصلا.. و لكنى في نفس الوقت كنت لا املك الجرأة على الاقتراب منه.. ليس لسبب مفهوم .. و لكن لشعور بالرهبة ينبع بداخلي كلما مررت بجدران المنزل .. و حتى الآن و بعد مرور كل هذه السنين مازال شعوري كما هو لم يتغير.. و لا أدرى فعلا مبعث هذا الشعور .. و لكنى فعلا أخشى هذا المنزل.

- و ما سبب جلوسك وحدك في هذا المكان طوال هذه المدة الكبيرة ؟؟؟

طال صمته هذه المرة و هو مازال يحدق في أبخره الشاي المتصاعدة .. و أخيرا قال لي :

- هل ستحزن لو قلت لك ان هذا شئ من شئوني الخاصة التي لا أحب أن اطلع عليها أي شخص .. و حتى من المقربين لدى ...

- آسف.. ما كنت أعرف أن هذا سوف يسبب لك إزعاجا..

رد بسرعة و قد استعاد ابتسامته :

- لا يوجد أي إزعاج .. هل تريد بعضا من الشاي ؟؟؟؟؟

- لا .. بل يجب على الذهاب الآن .. لقد تأخرت كثيرا.

و استأذنت و انصرفت.

جلست أفكر في ما قاله الرجل لي و الذي اتفق تماما مع شعوري.. شعرت اننى احترق بنيران غريبة في داخلي .. يجب أن اكتشف سر هذا المنزل أو اقبل أن أموت من لهفتي تلك .

قريب المغرب كنت قد أخذت دراجتي و قلت لامي و أبى اننى ذاهب للتنزه قليلا .. و فعلا فإنني أحسست بالاختناق و أحببت أن أتنفس بعض من هواء المغيب النقي.. كان يوم من أيام الخريف .. و الشمس قد قاربت على المغيب ملقيه لونا احمر غريبا على الشارع الخالي و على الأشجار بطول جانبيه .. و اكتست السماء بالسحب الرمادية الداكنة التي تنذر بهبوب عاصفة و سقوط مطر.

و بالطبع .. فقد مررت بدراجتي بجانب جدران هذا المنزل و وقفت قليلا أحدق فيه على ضوء أشعه الشمس الغاربة.

كان منزلا كبيرا احمر اللون مكون من طابقين و تحيط به حديقة صغيره تشبه الدغل حيث تداخلت الأشجار بطريقه غريبة فيما بينها من فرط عدم وجود من يهذبها لفترة طويلة.

كان القصر – و يحسن بى أن اسميه كذلك – آية من آيات المعمار الفني بالتماثيل الذهبية على كل طابق من طوابقه و الأعمدة التي على شكل آلهه إغريقية مما ذكرني بمعابد الارخثيون اليونانية .. كان نحت القصر بأسلوب يوناني تماما.

و بين الأشجار كانت ترقد بعض المقاعد التي اصطبغت باللون الأبيض الحائل من القدم و قد تناثرت عليها أشعه المغرب الحمراء من بين أغصان الأشجار المتشابكة.. حقا كان منظرا غريبا .. مخيفا .. و هممت أن اخذ دراجتي و امشي غير أن هناك شئ ما لفت نظري.

فعلا .. لم أكن أتوهم .. هناك ولدين و بنت في مثل عمري تقريبا هناك.. جالسين على كرسي من تلك الكراسي تحت شجرتين ملتفتين بطريقه معقده.. هل أتى احد ما ليسكن هذا المنزل و أنا لا أدرى؟؟؟؟

لقد رؤنى مثلما رايتهم على ما أظن حيث أنهم أشاروا لي بالاقتراب ..

شعرت بالقليل من التوتر و لكنى لبيت الطلب.. و نزلت عن الدراجة و قدتها بين الأشجار إلى داخل البيت و أسندتها على جذع شجره كبيره ثم ذهبت إليهم.

كان الثلاثة جالسين بجانب بعضهم على كرسي واحد تحت شجرتين ملتفتا الأغصان و كان أمامهم كرسي آخر خالي قد حال لونه و بينهما كانت الأعشاب قد وصلت لدرجه هائلة من النمو حتى لتكاد تصلى إلى منتصف ساقى .. و في المقعد الخالي أمامهم جلست.

كانت الشمس قد قاربت على المغيب تماما و بدأت اشعر بمرور رياح باردة على جانبي وجهي و تسلل الضوء الأحمر من بين الأشجار ملقيا علىّ و على وجوههم ظلال حمراء قاتمة.. كانوا كما قلت و كما شاهدت من بعيد ولدان في مثل عمري تقريبا و بنت جالسه في المنتصف..

كان الولد الجالس على يمينها اسمر اللون ذو شعر اسود ناعم و عينان زرقاوان بدا غريبتان في وجهه الأسمر و الثاني كان ابيض اللون ازرق العينين مثل الأخر.. و ياتى دور الفتاه في الوصف و حقا كانت جميله .. بل في غاية الجمال مما يذكرك بالجمال الميثولوجى اليوناني لافروديتى .. إلهه الجمال عند الإغريق.

كانت بيضاء البشرة ذات عينين واسعة زرقاء بلون السماء في يوم صيف صحو .. ذات شعر اصفر متموج طويل يكاد يصل إلى منتصف ظهرها.

كان الثلاثة ينظرون لي في صمت مثلما انظر إليهم ثم قطع حبل الصمت هذا صوت الولد الأسمر الذي قال:

- أعجبك شكل البيت .. أليس كذلك؟؟ ..

- فعلا .. فالبيت على درجه كبيره من الجمال .. و اننى لأعجب كيف يبقى منزل بل قصر مثل هذا على مثل هذه الحال من القدم و عدم العناية !!

نظروا لبعضهم في ما يشبه الابتسامة ثم قال الولد الأبيض:

- إن لهذا البيت قصه طويلة قد أدت به إلى هذه الحال .. و يمكننا أن نقصها عليك الآن أن كنت تريد ذلك..

كان هذا أفضل عرض سمعته منذ شهر مضى.. اى منذ اقامتى في هذا المكان .. و صادف هوى في نفسي .. و لم لا و نفسي مشتاقة إلى سماع قصه هذا البيت الغريب الذي شغل عقلي و جعل خيالي يشرد في سماوات بعيده.. و على الفور قلت :

- سأكون سعيدا جدا بسماع هذه القصة منكم بالطبع...

التفتوا إلى بعضهم البعض مره أخرى ثم التفت إلى الولد الأسمر و قال:

- كان هذا منذ وقت بعيد.. منذ نحو مائتا عام .. و ليس هنا .. بل باليونان .. كان صاحب هذا القصر من اعلي الطبقات الاجتماعية باليونان في هذا الوقت و كان له من الخدم و الندماء ما لم يكن لأي قرين من أقرانه أو من طبقته الاجتماعية.

سكت قليلا .. و كانت بدايات الليل قد بدأت في غزو المكان و لم يعد لقرص الشمس من اثر واضح إلا بضع إشاعات مرتجفة تخترق السحب المتراكمة و تصاعدت حده الريح و برودتها حتى اننى ضممت معطفي حول عنقي و لكنني لم أفكر في الذهاب .. و كيف اذهب و أمامي الفرصة كاملة لمعرفه سر هذا البيت؟؟؟

استطرد الولد الأسمر بعد فتره قصيرة:

- ثم كان هذا اليوم .. كان هذا السيد راجعا وحده في الليل .. لم يكن قد تزوج بعد .. و كان سكيرا بعد سهره طويلة قضاها مع أصدقاء السوء.. و سار يترنح على جواد و هو يغنى بصوت متقطع أعياه التعب و الخمر.. ثم تراءى له و هو على تلك الحالة ما يشبه الطائر على غصن شجره وارفه بقربه فامسك بندقيته و ضربه عليه .. و بالطبع لم تصب الرصاصة إلا الفضاء و لكن اللعبة أعجبته و كان قد اقترب من المنزل كثيرا فأخذ في الضرب على ما يظنه طائرا أمامه ثم .. حدثت الكارثة ......

كنت قد وصلت إلى حاله من الترقب لم يخمدها اشتداد صوت الريح أو صوت نفاذها من بين أغصان الأشجار محدثه صوت حفيف غريب .. و لكن كل انتباهي كان مركزا على القصة .. و القصة فقط .....

لم يتركني الراوي لأفكاري بل استطرد بسرعة بعد فتره صمت قصيرة:

- شقت الصرخة الليل المظلم .. صرخة شخص يموت .. و تعالى صوت الأقدام و أضيئت الأنوار على أبواب القصر ليكتشفوا و يكتشف السيد المترنح المندهش الحقيقة .. لقد أصابت الطلقة احد خدمه الواقفين على الباب في مقتل.. و لم تنفع معه أي محاوله إسعاف و مات على الفور ...

كان الليل قد حل تماما و لم يعد يضئ مكاننا الكائن فى اقصى الحديقة الا ضوء ضعيف قادم من مصباح انارة قرب اسوار القصر .... و لم تعد هناك اضاءة للقمر فقد حجبته السحب الرمادية تماما.

سكت الولد الاسمر قليلا ربما ليلتقط انفاسه .. و لكنه لم يكمل الحديث فقد استطرد الولد الابيض و قال:

- بالرغم من حزنه على ما حدث منه لم تكن لدى هذا السيد اى مشكله .. فهو من اعيان القوم و لن تقوم اى يد بالامتداد اليه .. و سرعان ما كانت زوجة الرجل و ابنه الذى كان فى الخامسة من عمره تقريبا واقفين امامه فى غرفة مكتبه .. و كان قد اعطاهما مبلغا كبيرا من المال مع كلمات اسف سريعه و طلب منهم ان يقولوا لمن يتحرى عن الامر ان الخادم كان ينظف بندقيته و حدث ما حدث ...

و لم يكن امام الارمله الا القبول .. فرفضها لن يرجع لها زوجها كما سيجلب عليها غضب سيدها .. و هى تعلم انها غير مخيرة اصلا .. فاما القبول و اما القبول و لا شئ غير ذلك .. لم تتكلم .. بل اكتفت بالنظر الى سيدها فى صمت .. نظره غريبه لم يفهم معناها .. حزن عميق ممزوج بشئ ما لم يدرى كنهه .. و لم يهتم بان يدركه ..

سكت الولد قليلا و كنت قد لاحظت بان الفتاه لم تتكلم اطلاقا حتى الان .. و لكن ملامح وجهها كانت تعكس تاثرا واضحا بالقصة .. كانها هى بطلتها او كانها تهمها شخصيا .. يوجد شئ ما لا افهمه !! .. و لم يمهلنى الولد لافكارى فسرعان ما استطرد قصته و قال:

- انتهت المشكلة كما تمنى الشاب .. فلم يكن عمره غير عشرين عاما .. و كان وحده فى القصر بعد رحيل ابواه لزيارة احد اقاربهما فى بلدة مجاوره .. و بعد رجوعهما وافقاه على الطريقه التى انهى بها المشكله .. و انتهت الحكاية تماما ..

بعدها بخمس سنوات مات ابواه واحدا بعد الاخر بالسل الرئوى .. و بعدها بخمس سنوات اخرى قرر السفر الى مصر .. ربما لسبب و ربما لهوى فى نفسه .. لست ادرى .. و جاء الى هنا و بنى هذا البيت .. و تزوج من ابنه احد الاعيان المصريين و استقر هنا .. ثم بمرور الوقت انجب توامان شقيقان و بعدها بسنه تقريبا انجب ابنته الوحيدة و الصغرى ..

سكت قليلا و اخذ فى النظر الى رفيقيه .. كان ذهنى مشتتا بهذه القصة و غير قادر على التفكير .. كنت نسيت نفسى و نسيت الوقت و نسيت كل شئ ما عدا ما انا اسمعه الان .. و استطرد قائلا:

- عاش هذا الرجل مع اسرته الصغيره فى هذا البيت حتى كبر اولاده .. و اصبح التوأمين فى سن السابعة عشر و الفتاه فى السادسة عشر ..

ثم كان هذا اليوم .. كان السيد و زوجته قد ذهبا فى امسية جميلة الى احدى الحفلات .. و كان البيت خاليا من الخدم اذ كان يوم الاجازة الاسبوعية .. و كان من تبقى منهم فى البيت قد رحل منذ ساعات قليلة ليقضى ليلته مع اسرته .. و لم يبق فى القصر الا الابناء الثلاثة و خادم على البوابة فى العقد الثالث من عمره تقريبا ..

غلبت على الابناء الملل و قرروا النزول للمشى قليلا فى حديقة القصر التى نجلس بها الان .. و لم يطل مشيهم حتى استوقفهم هذا الخادم ..

و سكت هذه المره مدة اطول من المرات السابقة .. كانما كان يقاوم شيئا ما فى داخله .. و لاحظت على وجوه رفيقيه نفس الشئ .. و بدا لى ان عينى الفتاه ملتمعه كانها توشك على البكاء .. لم استطع التفكير .. كان كل شئ فى عقلى مختلطا تماما ..

ازداد الجو برودة و بدت قطرات صغيرة متباعدة من المطر تسقط بين الاشجار المتداخلة .. و هنا تكلمت الفتاه .. تكلمت بصوت خافت مرتجف بعض الشئ .. و لكن كان به شئ ساحر جعل قلبى يرتجف بمجرد بدء كلامها .. قالت:

- وقف الخادم امامهم قليلا دون ان ينطق بكلمة .. كانوا يعتقدون انه قد جاء يطلب منهم شيئا .. و لكن سكونه لم يطل .. و سرعان ما تكلم فى حكاية غريبة عنهم .. حكاية لم يعرفوا عنها شيئا و التى عرفت عنها الان كل شئ .. حكاية الخادم الذى قتل فى ليلة مثل تلك الليله منذ سنوات بعيدة .. و بالطبع لم يفهموا شيئا .. الا ان الرجل بصوت عصبى افهمهم الموضوع .. افهمهم بانه ابن هذا الخادم .. افهمهم كيف كانت امه تلقنه تلك الحكاية مرات و مرات و مرات حتى اصبح يكره هذا الرجل و يكره عائلته كلها .. افهمهم كيف سافر وراءه الى مصر و بذل المستحيل حتى يعمل خادم عنده عله يتمكن من فرصه لقتله و القصاص منه .. و لكنه لم يتمكن من هذا .. و فى النهاية افهمهم بان هذا الرجل هو اباهم ..

بالطبع كانت الصدمة عليهم هائلة .. و لكنهم لم يعرفوا لما يقول لهم هذا الكلام .. حتى اخرج سكين تهذيب الحشائش من معطفه و قال لهم فى صوت مرتجف:

- و حيث اننى لم اتمكن من القصاص من ابيكم فلا يجب ان يذهب كل هذا المجهود هباءا .. لن اتحمل ان يذهب كل هذا فى الهواء ..

و لم يدع لهم فرصة حتى للحركة .. فسرعان ما اغمد سكينه فى جسد احد الاخوين و اخرجها ليدخلها فى جسد الاخر .. و رأت الاخت اخويها يسقطان صريعين امامها و اصابتها صدمه .. لم تتمكن حتى من الصراخ .. و تراجعت بظهرها و هو يتقدم منها واضعا عينيه فى عينيها .. اغمد سكينه فى قلبها .. و انتهى الامر تماما ...

كان قد جهز لاخفاء جريمته فسرعان ما اختار احد اركان الحديقة و أخذ فى الحفر حتى اصبحت الحفرة فى عمق و اتساع يكفى لدفن الثلاثة .. ثم دفن اجساد الاخوة بها و دفن سكينه ايضا معهما .. و اهال على الحفرة التراب و سواها جيدا و نثر عليها بعض اوراق الاشجار الذابلة حتى اخفاها تماما .. و لم يكتف بذلك بل وضع عليها بعض الشتلات لاشجار ضخمة حتى تنمو فوقها مع الزمن و تخفيها تماما ...

و عاد الرجل الى كوخه و عزم على ان يظل به حتى ياتى اليونانى و زوجته و يكتشفوا اختفاء ابنائهم .. و عندئذ سوف يخبرهم بكل براءة بانه لم يرهم و انه كان نائما ..

و لكن القدر لم يمهله .. يبدو ان تلك الجريمة و العمل القاسى قد اهلكاه فمات بعدها بدقائق .. و انزل الستار لتلك المسرحية ..

و عاد الزوجان .. و وجدا اول ما وجدا جثة الخادم فى كوخه .. ثم بعدها لم يجدا اولادهما بالبيت .. و قامت الدنيا و لم تقعد .. فتشت الشرطة كل شئ و سالت كل شخص و لكنها لم تصل الى شئ .. و ياس الرجل و زوجته منهم و كرهوا البيت كما لم يكرهوا اى شئ .. و سرعان ما غادراه راحلين الى اليونان و عزما على بيعه .. و لكن يبدو ان شئ ما قد حدث فلم يباع البيت .. و بقى كما هو عليه حتى وقتنا هذا ...

و صمتت الفتاه .. و كان الجو قد ازداد برودة الى حد كبير .. و هبت الرياح على وجهى حاملة معها اكداسا من اوراق الشجر الذابلة عبر ارجاء الحديقة .. كان ذهنى مشوشا بدرجة غريبة حتى اننى لم استطع تحديد افكارى و ترتيبها .. شعرت بان هناك فكره ما تطاردنى و لكننى لا استطيع العثور عليها .. لا استطيع جمع اطرافها وسط اضطرابى ..

و قام الثلاثة .. و كانت شدة المطر قد بلغت درجة عالية .. و اخذت الرياح تعبر بين اغصان الاشجار بسرعة مصدرة صوت حفيف غريب ..

لمع البرق فجأة .. فلمحت وجوه الثلاثة و رأيت ما يشبه الدموع الوردية على وجنتى الفتاه .. دموع وردية؟!!! .. ترى هل ما رأيته صحيحا ام ان ضوء البرق قد صنع صورا و انعكاسات غريبة؟؟ ..

تصاعد صوت الفتى الاسمر مرة اخرى و هو يقول لى فى صوت بدا لطيفا الى حد كبير:

- لقد حان وقت الذهاب .. صدقنى .. لقد استمتعنا بصحبتك كثيرا .. و نشكرك على سماع الحكاية حتى اخرها ..

اداروا لى ظهورهم و بدأوا فى السير ..

كانت افكارى ما زالت مشتتة و لكننى نجحت فى السيطرة عليها الى حد ما .. قلت لهم:

- انتظروا قليلا .. !!!

وقفوا جميعا فى وقت واحد ثم استداروا الى فى بطء و فى اعينهم ابتسامة غريبة لم ارتح لها و لكننى واصلت:

- ما الذى جاء بكم الى هنا؟ .. و كيف عرفتم بأمر تلك الحكاية ان كان جميع اطرافها قد ماتوا و مات سرهم معهم؟ ..

لم يردوا و ان ظلوا على نفس الابتسامة الغريبة فى اعينهم ...

فجأة .. تجمعت افكارى و تركزت حتى استطعت ان اجد ما كان غائبا عنى منذ فترة كبيرة .. و كان ما وجدته مخيفا .. مخيفا .. خرج صوتى على الرغم منى مرتجفا و قد اغرق ماء المطر شعرى و وجهى:

- من انتم ؟؟!!!

انتقلت الابتسامة من اعينهم الى وجوههم فى آن واحد .. و لمع البرق مرة اخرى فاضاء المنطقة على يمينهم تماما .. و استطعت ان اميز صوت الفتى الاسمر من بين صوت الرياح و حفيف الاوراق المتطايرة و هو يقول:

- الم تفهم بعد؟؟؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق